افتح سكر
عدد القراءات: 8980

بقلم: علاء أبو ضهير

 

لم تستغرق عملية إغلاق جميع المحال التجارية والصناعية في حارتنا سوى ثوان قليلة، وذلك بعد ان صرخ احد الجيران قائلاً: (سكرو محلاتكم)، اختفى جميع من بالشارع، واصبحت الحارة حارة اشباح، مرت الدورية الاسرائيلية الراجلة، ولم تجد أحداً من أصحاب المحلات او المواطنين لتصب غضبها عليه، كانت إدارة الاحتلال قد اصدرت أمراً يقضي بإغلاق المحلات ابتداءَ من الصباح وفتحها بعد الظهر على عكس القرار الذي اصدرته القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة والذي يطلب فيه من اصحاب المحلات التوجه الى اعمالهم في الصباح واستئناف الاضراب الجزئي اليومي بعد الظهر، فقد جنود الاحتلال هيبتهم وجبروتهم امام هذا القرار الذي دفعتهم قيادتهم لتنفيذه وفتح المحلات عنوة، كنا نشاهد جنود أقوى دولة في الشرق الاوسط، الدولة الوحيدة التي تمتلك اكثر من مئتي راس نووية كافية لتدمير الشرق الاوسط وتحويله الى رماد، رأيناهم يحملون المقصات الحديدية بدلأ من البنادق ويتجهون الى اعمالهم بعد الظهيرة لكسر الاقفال الحديدية للمحال التجارية وفتحها عنوة، لم يستطع جنود الاحتلال فرض هذا القرار بسهولة، لقد تعود المواطنون الفلسطينيون على الذهاب الى اعمالهم صباحاً وليس ظهراً، فقد اعتاد فلاحو منطقة نابلس كغيرهم من فلاحي العالم على التوجه الى المدينة باكراً والعودة الى قراهم سريعا. لم تقتصر تفاهة الجنود على ذلك بل تعدتها الى التدخل في شؤون المواطنين، إذ إعتمدت القيادة الوطنية الموحدة قرار بالتحول الى التوقيت الصيفي في زمن غير متزامن مع نفس القرار الذي اعتمدته دولة الاحتلال، فما كان من جنود الاحتلال إلا تفتيش المواطنين وكسر ساعات من يتبين انه يسير حسب التوقيت الفلسطيني بدلا من الاسرائيلي، كما قام الجنود بمنع المواطنين من شراء شيء في الفترة الصباحية لاجبارهم على النزول الى المدينة وفتح محلاتهم في الفترة المسائية التي قررها الاحتلال، وكثيراً ما قام جنود الاحتلال بإتلاف الخبز وغيره من المواد الغذائية التي قام المواطنون بشرائها سراً، حاول الجنود تغطية الشمس، ومن ذا الذي يجرؤ على تغطية الشمس بغربال! هذه الارض عربية، ولن نسمح بأن تتحول الى سجن قاتل.

 

كنت أعمل وشقيقي في دكاننا المتواضع، بينما كان والدي يقوم بحراستنا في الشارع، كنا نغلق البوابة على انفسنا لنقوم بتجهيز اكبر كمية من العمل قبل وصول جنود الاحتلال، لنأخذ لاحقاً ما تم انجازه الى المنزل لنقوم باستكمال العمل سراً، كنا نضع خافضات للصوت على الاجهزة للتخفيف من حدة صوتها حتى لا يسمعنا الجنود.

 

كنت طالباً في السنة الاخيرة في المدرسة الثانوية يوم اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الاولى عام 1987 ضد الاحتلال الاسرائيلي والتي كانت بمثابة نقطة تحول تاريخي في عمر هذا الشعب، فقد جاءت هذه الاننتفاضة بعد عشرين عاماً من الانتكاسة التي لحقت بالعرب والفلسطينيين بعد سقوط الضفة الغربية وقطاع غزة في ايدي المحتلين الاسرائيلين وبذلك استكمل المشروع الصهيوني هيمنته على ما تبقى من فلسطين التاريخية، سقط الشهداء من مدينة نابلس فور بدء تساقطهم في قطاع غزة شرارة الانتفاضة الاولى، واغلقت المدارس ابوابها معلنة الاضراب واندفع الشبان لرشق الحجارة، كانت الانتفاضة الاولى ذات بعد جماهيري كبير، إذ آمنت قيادتها بعدم عسكرتها، وكرست اهتمامها على الاستعانة بوسائل الرفض شبه السلمية في اغلب الاحيان، مما اعطى هذه الانتفاضة بعداً دولياً واهتماما عالمياً كبيراً احرج دولة الاحتلال.

 

كان الموسم ماطراً، وكان موسم بيع الجبنة النابلسية الشهيرة قد بدأ مع توافد فلاحي المدينة لبيع منتجاتهم من الالبان ومشتقاتها، وكنا قد إعتدنا على ارسال بعضٍ من خيرات الوطن لاقربائنا في الشتات في الاردن وغيرها، قد تبدو هذه الفكرة سخيفة، ولكنها مقدسة بالنسبة للمغتربين من ابناء الوطن ممن ُحرمو نعمة العيش فيه، فقد كانت رائحة الزعتر الفلسطيني كافية لتغرق العين بالدمع، فما بالك بزيتون الوطن وزيته والقزحة والحلاوة النابلسية، والزلابية والحلويات النابلسية الشهيرة، لقد ارتبطت منتجات الوطن بهالة من الاهمية والقداسة، خاصة وأن الدخول الى فلسطين اصبح حكراً على عدد من الفلسطينيين الذين بقو فيها في حين تم حرمان اولئك الذين نزحو من العودة اليها، فكانت رائحة الزعتر كفيلة بإستعادة ذكريات الوطن، وكانت رائحة خضروات الوطن كفيلة بإثارة الحنين، حنين التراب لأهله في الضفة الاخرى.

 

وفي يوم من تلك الايام، ذهب والدي في الصباح لشراء بعض الجبن لخالتي المقيمة في الاردن، وكانت قد أصرت على ضرورة حصولها على شيء مما كنا نسميه بخير السنة، قام والدي بشراء عشرة كيلوغرامات من الجبن، وذهبت لاحقاً لاحضارها، وبينما كنت احمل هذه الكمية المتواضعة من الجبن، هجم جنود الاحتلال على الشارع الذي كنت اسير به، ركضت كثيراً وهربت من منزل لمنزل، دخلت منازل لم ادخلها من قبل، وكذلك فعل بقية المواطنين، هربنا خوفا من قيام الجنود بالدوس بأقدامهم على المواد الغذائية التي قام المواطنون بشرائها، واخيراً دخلت احد المنازل، كانت صاحبة المنزل سيدة فقيرة تقوم بغسل ملابس اطفالها، نظرنا من ثقب الباب فرأينا الجنود يبحثون عن اي ضحية لضربها، كان الجنود قد تلقوا تعليمات بكسر عظام الفلسطينيين من وزير الحرب آنذاك، اغلقنا الابواب على انفسنا بينما كنت انظر اليهم خائفاً، وسرعان ما وجدو ضحيتهم فإنهالو عليها ضرباً، مر الوقت بطيئاً، ولكنهم انصرفو أخيراً، فخرجت من المنزل مسرعاً لاصل بيتنا وأفتح الحقيبة حيث كانت العشرة كيلو غرامات من الجبن قد تفتتت ولم تعد صالحة للاستهلاك، شكراً لجنود الاحتلال الذين بذلو قصارى جهدهم لتذكيرنا بان الارض لنا وانهم غزاة محتلون قادمون من وراء البحار، شكراً لهم على كل ما قامو به خلال الانتفاضة الاولى من اعتداءات كانت كافية لكسر حبل الود الذي بدأ بين الاحتلال والشعب المحتَل في عقد السبعينات والثمانينات عندما وصلت الامور الى درجة من الهدوء سمحت للاسرائيليين بالتمشي في مدينة نابلس بهدوء وسلام. قد تكون تلك الحقبة فترة إعداد وتهيئة للجيل الجديد، الجيل الذي لم ير النكبة ولم تكسره النكسه، جيل بدأ حياته دون أدنى معرفة عن جذوره او مصيره، لكنه فوجىء بواقع لا يمكن قبوله، واقع يقول ان هذه الارض محتلة ولا بد من زوال هذا الاحتلال الظالم الذي يغلق بيوت المناضلين بالاسمنت ويفصل الشوارع عن بعضها بواسطة البوابات الحديدية والاسمنتية، لقد استيقظ هذا الجيل متمرداً على واقعه، لكنه بقي منزرعاً في أرضه ليبدأ لاحقاً تربية اطفاله على حب الوطن، هؤلاء الاطفال الذين ولدوا اثناء انتفاضة الاقصى التي اشعلها هذا الشعب الذي بدأ مسيرته الكفاحية قبل اكثر من ثمانين عاماً لم يسترح الا قليلا. هؤلاء الاطفال الذين قالت فيهم سيدتنا فيروز: " المجد لاطفال آتٍ، الليلة قد بلغو العشرين، لهم الشمس، لهم القدس، والنصر وساحات فلسطين، وسلامي لكم، يا أهل الارض المحتلة، يا منزرعين بمنازلكم، قلبي معكم وسلامي لكم:، لقد قال منظرو الصهيونية بعد احتلال فلسطين عام 1948 ان الجيل المعاصر سينسى والجيل اللاحق لن يعرف، ُترى هل صدقت الرؤية الصهيونية؟

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

غيث الريشه، نابلس
استاذي علاء المحترم بجد انك مبدع و الكتابه روعه .... مازلنا ننتظر حلم يتكسر يوماً بعد يوم بتحرير الارض..

2

منيرة الشيخ قاسم، فلسطين /نابلس
اعلم سيادة القراء ان هذا الذي اكتبة الان هو المعلوم ولكنني لطالما احببته وتمنيته حاصلا ... ابلغ من العمر الثانية عشر وارقص امام كل قطعة نادرة واجدة في بلدي فرحا بها ، واميل لكل جميل من ترابها ،واعشق كل نفس من انفاسها ،ولا اطيق شوقا الا لها... هي فلسطيننا كم اتمنى ان تحتضننا ونجد المؤيد لايدينا في الدفاع عنها والسمو بمجدها العالي ولكن يا حياة لمن تنادي
تصميم وتطوير: ماسترويب