نابلس ... كلنا منحبك
عدد القراءات: 3777

 

كم لفت نظري سقوط كيس النفايات من الطابق السابع للعمارة التي تقابلنا إلى أرض متروكة مجاورة، وأضحكني منظره عندما أنفجر الظرف و بدأت النفايات تتبعثر منه يمنة ويسرة ولم يبق شيئاً فيه في نهاية رحلة سقوطه من نافذة ساكن ذاك المنزل إلى الأرض.

خرجت من المنزل قاصداً أحد الأماكن وبالصدفة وجدت سائق تكسي وكأنه كان ينتظرني فحسدت نفسي على حظي وأعطيته عشرة شواكل ليرجع لي الباقي وإذا به يخصم  سبعة شواكل أجرة طلبٍ علماً أن المسافة التي سأقطعها أقطع ضعفها بشيكلين فقط، لقد أخذ مني ضعف ما يستحق، وعندما هممت بمراجعته تذكرت أنه قد يحمل معه مسدساً أو رشاشاً في حقيبة سيارته الخلفية جاهزٌ لإطلاق الرصاص على قدمَيّ، لا أعرف لماذا تفتحت قريحتي لكتابة هذا المقال بعد أن ركبت بالسيارة وصرت أشاهد كل الظواهر السلبية في المدينة وأقلب ذاكرتي بحثا عن غيرها، فعندما هممت بالركوب بالسيارة سمعت طلقات الرصاص كما أسمعها يومياً في أعراس الصيف "النابلسية"، وكأنها السيمفونية الوطنية التي بتنا نسمعها أكثر من الأذان والقرآن، عرس للزواج أم جبهة حرب؟ سمعت ذات يومٍ في إحدى الجلسات أن هناك بعض من يمتلكون الأسلحة باتوا يعرضون خدماتهم بمقابل، فان كنت عريساً وترغب في أن تنال المزيد من الشتائم من المواطنين العاديين المساكين المنزعجين من ضجيج الرصاص فما عليك إلا استئجار هؤلاء المسلحين لإحياء عرسك وإزعاج المواطنين الآمنين في منازلهم المجاورة، وكأن السلاح صار للتجارة بالجملة، وكأن الرصاص بات نوعاً من أنواع الحلوى التي توزع بالأعراس. يذوق حلاوتها العريس ويذوق مرارتها الناس الآمنين النائمين في منتصف الليالي.

 

لا أعرف لماذا نلعن الشيطان في اليوم ألف مرة ونحن نمارس أضعاف أعمال الشيطان في اليوم ألف مرة، نكذب ونسرق ويأكل بعضنا لحم بعض ويأكل القوي الضعيف، ويلعن بعضنا بعضاً، وبات الأمن والأمان العملة النادرة والنقطة الأساسية في البرامج الانتخابية والوعود الواهية التي لا ينالها إلا كبار القوم، أما نحن الشعب الضعيف المسكين فلا حول لنا ولا قوة.

 

تسير بالشوارع فتشاهد فوط الأطفال مبعثرة هنا وهناك، الخضار التالفة وقشور الموز والبطيخ تنتظر منك خطوة واحدة تتربص بك كي توقعك أرضاً، أما الروائح الزكية المنبعثة من حاويات النفايات فهي تؤدي بك إلى الشعور أنك في مكب نفايات وليس في حي ٍ سكني ينزل أطفالك للعب فيه يومياً، حاويات النفايات ورغم قلتها  لاتجد أحداً يهتم بها فهي لم تغسل منذ سنين، ولونها بات أسوداً، ورائحتها تجعلك تغير طريقك إلى شارع آخر وليس إلى الرصيف الآخر.

 

ولعل الصدفة دفعت أحداً ما في يومٍ ما إلى المرور من أمام احدى المخيمات لكي تجد تلال النفايات وقد لجأ السكان إلى اشعال بعضها للتخلص منها. وان سولت لك نفسك أكل قرطوس بوظة فانك ستضطر إلى حمل ورقتها إلى بيتك فأنت ستسير مئات الامتار قبل أن تجد حاوية لن تستطيع الاقتراب منها بالغالب.

 

أما بلدتنا القديمة وتاريخنا المشرف بها والتي دمرها الاحتلال عدة مرات وأجهزنا نحن عليها فاني أدعوكم للمشي بها مساءً أو يوم الجمعة، وكأن المدينة باتت مدينة أشباح تملؤها النفايات.

 

أنا هنا لست أنتقد مؤسسة هنا وهناك فأنا على يقين أن هذه المؤسسات تعاني الكثير من المشاكل أكبر بكثير من مجرد شارع متسخ هنا أوهناك، بل انني أتحدث عن مشكلة باتت معضلة في تربيتنا، فما الذي دفع ذاك الرجل المحترم الساكن أمامي على القاء كيس النفايات من الطابق السابع لولاً أن القذارة باتت جزءاً من تربيتنا وثقافتنا؟ أو لعل أحداً ما يدعي أن حصار مدينة نابلس هو من منع هذا المحترم من أن يخرج من بيته حاملاً ظرف النفايات ليرميها في الحاوية؟

 

وما الذي منع صاحب المحل أو البسطة من أن يكلف نفسه عشر دقائق لكي يجمع نفايات محله التي لم يكلف نفسه أصلاً لإحضار برميل نفايات يضعه إلى جانب محله لكي يجمع النفايات بها؟ وما الذي يدفعنا إلى هذا المستوى من الانحطاط لكي يصبح رمي النفايات في الشوارع أسهل من حملها في كيس وإنزالها إلى الحاوية؟ صحيح... لعلها رائحة الحاوية....!

 

المشكلة ليست مشكلة نظافة فقط، فهناك من يظن أن الشوارع والأرصفة باتت مطوّبة باسمه وأصبح يُخرج محله بالكامل لعرضه على الرصيف بحيث لا يبقى مجال لكي يسير المارة عليه، مما يضطرهم إلى النزول إلى الشوارع والسير بين السيارات، متمنين من الله أن تكون إصابتهم طفيفة في حال لا قدر الله وسحقتهم سيارة في الشارع، وهنا لا بد من ذكر مشكلة السيارات المسروقة التي باتت الحل الأفضل والأسهل لمن يرغب في قيادة سيارة بأقل تكلفة ممكنة، بل انه يستثمر هذه السيارة فيقوم بدهنها باللون الأصفر ليعمل عليها كسيارة أجرة، وان لا سمح الله وضرب كائنا حيوانياً بشكل آدمي فليس عليه سوى الخروج من السيارة والركوب في سيارة أخرى والهرب دون الاكتراث لهذا الكائن الطريح المسمى حيواناً بشرياً.

 

المشكلة لا تقف هنا، فالإشارات الضوئية التي فرحت عند البدء بإصلاحها بت أتمنى اعادة فكها من جديد فنحن شعب لا يعرف ماذا يعني اللون الأحمر أو اللون الأخضر وتجد الكثير من السائقين لديهم عمى ألوان فما ان يرى اللون الاحمر حتى يدوس على البنزين لكي يسبق لمح البصر واذا به يدمر سيارة أخرى، وبالغالب فان سعادة الطيار لم يجدد ترخيص سيارته ولا تأمينها، ولذلك فان أمامه خياران فإن كان محترماً اعترف بخطئه وقام بتعويض الطرف الآخر، أما الخيار الاوفر والأضمن فهو أن يستعين بسلاح من هنا أو هناك أو بأحد المسلحين ويضطر الطرف الثاني للإعتذار له لأنه هو من وقف في طريقه وقطعها عليه بسيارته. أو لعله دهس أحد المارة فهاذا الغبي لم يعرف أن الاشارة الخضراء تعني "قف" وما كان عليه قطع الشارع وعليه فهو يستحق الموت...

خرجت من المسجد بعد الصلاة في أحد الايام وانتظرت خلو الشارع من السيارات ثم قطعت الشارع، فاستنكر مني عمّي هذا الفعل وسألني لماذا لم تقطع الشارع على الاشارة؟ فقلت له: انني أخاف أنني ان جائت الاشارة الخضراء أن يأتي أحد ما بسيارته ويخالف الإشارة وبالتالي يكون قد دهس القانون والإشارة وبالتالي فإنني وحفاظاً على كرامة القانون وكي لا تدهس الإشارة فإنني أفضل أن أدهس أنا. وضحك عمي وبادلني الشعور وذكر إحدى المرات التي قطع فيها على الإشارة عندما كانت خضراء وبدأ بقطع الشارع وعندما وصل المنتصف إذا بسيارة تأتي مسرعة وفيها شاب مبتسم ويخرج لسانه الطويل من فمه بحركات بهلوانية ساخرة من عمي ودهس الإشارة وواصل السير وسط لعنات عمي التي انهال بها على هذا الشاب وطبعاً بينه وبين نفسه، فلولا أن هذا البهيم "على حد قول عمي" مدعوم من بهيم أكبر منه، أو لديه سلاح على وسطه لما أقدم على هذا الفعل.

 

لم تنتهي المشاكل، صدقوني فنحن نعيش في أسوأ عصور الانحطاط التي ألصقنا فصولها بوجود الاحتلال والحصار والوضع الأمني الصعب، وبتنا نشتم شارون وكأن شارون يأتي بنفاياته ويرميها في شوارعنا ويأتي بأخلاقه الرذيلة ويعلمنا إياها...

 

دعونا ندخل إلى المساجد، ففي الأسبوع الماضي أنعم الله عليّ أن صليت الجمعة في أحد المساجد وخطب فينا الشيخ باللغة التركية فهو قد تطرق إلى كل المواضيع الهامة من أصول المعاشرة الزوجية والنفقة والطلاق ونسي مشاكلنا، وخطيب آخر خطب خطبة عصماء اختتمها بقول الله تعالى "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً" منوهاً إلى أن البعض يستخدمون المساجد للدعاية الانتخابية والتنظير السياسي، و صلينا وسط الرائحة الزكية الفائحة من أحذية المصلين وجرابينهم التي لم يغيروها منذ أيام أو أسابيع ولم يخلعوها على باب المسجد، وما أن قال الامام السلام عليكم ورحمة الله حتى سمعنا ضجيجاً عالياً من سماعات يدوية تدوي على بوابات المساجد " أربعة بخمسة يا بندووووراا" كلوين بشيكل ياخيار... وما إلى ذلك، وما ان تخرج حتى تظن اما أن الحسبة وسوق الخضار قد أتيا للصلاة في المسجد أو أن المسجد قد بات في الحسبة، ولفت نظري أن بعض بائعي الخضار قد طوبوا نصف الشارع أمام المسجد لبسطاتهم وخضارهم ظناً منهم أن المصلي يخرج جائعاً.

 

لا أريد ذكر المزيد فيما يتعلق بالمساجد كي لايقال أنني أنهى الناس عن الصلاة، لكنني أذكر أن الله أمرنا أن نأتي إلى المسجد مستحضري نية الصلاة والعبادة، وأمر خطباء المساجد أن يخطبوا بما يلبي حاجة الناس ويعالج مشكلاتهم، وأن يرفع الناس أيديهم إلى الله ضارعين لا أن يأتوه جائعين فما ان يخرج المصلي من المسجد حتى يهجم على الخضار والبضائع الأخرى.

 

أخي المواطن الصالح: عندما تذهب إلى السوق عليك بوضع رأسك بالارض فلعل الصدفة المحضة تدفعك إلى السرحان، فما ان تسرح قليلاً حتى تجد نفسك تبحلق بلا شعور بعيني أحدهم فتدب المشكلة الكبيرة وتسقط السماء على الأرض وتسمع انواعاً جديدة من الشتائم والاهانات وألفاظاً ابتكارية  وشتائم مما لايخطر على بال بشر، وهذا لا شيء فأنت ان اعتذرت أو لم تعتذر فعليك أن تحتاط على زوج من العكازات لكي تستعملها بعد أن تنهي فترة علاجك جراء قيام هذا الشاب اليافع باطلاق بعض الرصاصات على قدميك...

 

وعليك أيها المواطن الصالح المسكين أن تحاول تجنب السير على الرصيف أو في الشارع ففي احدى الشوارع أطاح أحد المتسابقين بسياراته بعدد من الشبان كانوا واقفين على الرصيف تماماً كما هي لعبة البولينج. عليك تجنب الدخول إلى السوق فأنت ستتعرض إلى النصب وسيستغل بائعي الخضار جهلك وطيبتك ببيعك الخضار بأسعار أعلى مما يجب، وعليك أن تغلق أذنيك كي لاتسمع شتيمة هنا أوهناك ولا أعني شتمك أنت بل أعني شتم الذات الالهية، التي أصبحت كصباح الخير لدى الكثير من الناس.

 

واذا أتينا إلى العمارات والايجارات والمستأجرين فنجد المستأجر قد نسي أو تناسى أواخر الأعوام الماضية ونسي آجاراتها مدعياً ضيق الحال وتجد سيارته تغير نفسها بنفسها إلى سيارة أفضل ويكتشف المالك أن المستأجر قد تملك شقة ما ان ينتهي من تشطيبها حتى يغادر العمارة بهدوء وسرية تامة ليكتشف المؤجر رحيله، ولا يستطيع مطالبته بأية مستحقات فهو لم يصدق نفسه أن هذا المستأجر قد رحل، وما ان يدخل إلى ملكه حتى يجد البيت المخلى بحاجة إلى صيانة ستكلفه كما كلفته أجرة تشطيبها من جديد، ويجد أن المستأجر الكريم لم يدفع للبلدية مستحقاتها طيلة السنوات السابقة وفي جميع الحالات فهذا يوم سعدٍ لا يمكن التخلي عنه، أخيراً قد رحل الجار المزعج المقيت وأولاده الذين لا يمكن وصفهم بأي وصف يمت بالطفولة فهم يحملون صفات الوقاحة والبلادة وبطء الفهم والازعاج المتواصل خاصة أثناء الصعود على الدرج والنزول منه واللعب على باب العمارة وكسر الزجاج ورمي القشور والاوساخ على الدرج والكثير الكثير مما يمكن ذكره وما لا يمكن، فقد حدثني أحدهم أن جاره طلب منه الحضور إلى ساحته لكي يشاهد الاوساخ الناتجة عن شجرة التين التي تنبت في المسافة الفاصلة بينهما ويطل جزء منها على ساحة هذا الجار، ويطلب الجار من جاره أن ينظف وسخ هذه الشجرة علماً انه يقطف ثمارها يومياً ويستظل بظلها، فما كان من هذا الرجل الا أن قام بقطع الشجرة كي لا يتمشكل مع جاره النظيف والمستفيد وبالتالي لا يخسره.

 

أخيراً فانني أستغرب سكوت الناس وصمتهم وكأن المشاكل لا تعنيهم وكأن هذه المدينة ليست مدينتهم، والغريب أن هؤلاء المساكين يقتنعون بالبرامج الانتخابية وبالدعوات الكاذبة الصادرة من هنا وهناك لضبط الامن وسيادة القانون واعادة الصواب، ووضع الرجل المناسب بالمكان المناسب، وكأن الله سيغير حالنا بعد انتهاء الانتخابات على يدي هذا المرشح وهذا الفصيل أو ذاك، ينظر الناس إلى الانتخابات التشريعية أو البلدية على أنها لحظة التغيير المرتقبة والمنتظرة وأن الليلة الاولى بعد ظهور نتائج الانتخابات ستشهد نزول مائدة الرحمن لتغيير خلق الانسان، وفي صباح اليوم التالي سينزل الناس إلى مدينتهم ليجدوها نظيفة وليجد الجار جاره وقد نظف له باب محله، أما الامهات فبتن يطمئنن على أطفالهن للعب بالشوارع فلا وجود للسيارات المسرعة ولا الأرصفة ممتلئة بالبسطات.

 

أعتقد أن مشكلتنا ستحل بالعودة إلى أخلاقنا التي كانت تسود في وطننا وعلينا أن نبحث في أنفسنا عن بذرة الخير التي خلقنا عليها وعلينا أن نتذكر أن ديننا الحنيف هو دين الاخلاق وخير ما يمكن لنا أن نحتكم اليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا"، ويقول أيضاً: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" ويا أيها الجار استمع لقول الرسول عليه السلام :"مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".

 

ونحن نواجه ونناضل ضد عدونا الصهيوني يجب أن نناضل ونجاهد ضد فساد أنفسنا وعقولنا وأخلاقنا وعلينا العودة إلى ماكانت عليه أنفسنا، فكل كتب التاريخ تحكي عن هذه المدينة أروع قصص المحبة والتكافل والتعاضد، مما جعلها تصبح منارة للعديد من المدن والقرى المحيطة في العصور الماضية.

 

 

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار
تصميم وتطوير: ماسترويب