مرة أخرى.. نابلس والخبز المر
عدد القراءات: 2331


نابلس تواجه التدمير للمرة الثالثة في هذه الانتفاضة

في سبتمبر 1967، كتب الصحفي العربي أحمد بهاء الدين في مجلة المصور، مقالًا بعنوان "نابلس والخبز المُر"، متأثرًا بما شهدته نابلس من حصار شرس خلال الأشهر الأولى للاحتلال الإسرائيلي. قال فيه:

"المدن عندي كالأشخاص؛ هناك من تحبه من النظرة الأولى، وهكذا كانت نابلس. يوم سقطت المدن العربية، بكيت نابلس بكاءً خاصًّا. قفزت إلى ذاكرتي وجوه أحببتها، وفي مقدمتها صديقي العلامة قدري حافظ طوقان، وكل المرافق والآثار والحدائق والمباني الحجرية التي تشعرك وأنت تسير فيها بأنك تتنقل في شوارع الغورية أو سيدنا الحسين في القاهرة..."

ويتابع قائلاً:

"اليوم، تعيش نابلس تحت الحصار والاحتلال، الموت يترصد في جنباتها، المدينة خالية من أهلها، والنوافير صامتة. لم يعد يُسمع سوى أصوات الرصاص ودوي القنابل. إنها في قلب المقاومة والنضال، وهي مركز العذاب."


تراث يُذبح أمام أعين العالم

منذ نيسان الماضي، تتعرض مدينة نابلس، ثاني أقدم مدينة في العالم بعد أريحا، إلى حصار غير مسبوق وهجمة همجية طالت كل شيء، من البشر إلى الحجر. البلدة القديمة، تحديدًا، تتعرض لهدم ممنهج يستهدف معالمها التاريخية، حيث تعمل الجرافات والمجنزرات الإسرائيلية على تدمير تراث إنساني يمتد لقرون.

اسم "نابلس" مشتق من الاسم اليوناني Neapolis أي "المدينة الجديدة"، تمييزًا لها عن "شكيم" التي دمرها الإمبراطور نيرون عام 67م. وتُعد نابلس الحديثة، المشيدة بين عامي 71-72م، إحدى أقدم المدن في موقع تل بلاطة الكنعاني، وقد احتلت مكانة اقتصادية وثقافية بارزة في العصور الوسطى، حتى أن الجغرافي "ابن الفضل العمري" وصفها بأنها تموّن كافة المدن الفلسطينية.

تقع نابلس في وادٍ خصيب بين جبلي عيبال وجرزيم، ويبلغ عدد سكان محافظتها نحو 180 ألف نسمة (حسب إحصاء 1997)، يتوزعون على المدينة، وأربعة مخيمات للاجئين، وأكثر من 70 قرية.


نابلس القديمة.. متحفٌ طبيعي حيّ

تتكون البلدة القديمة من سوقين رئيسيين، وتمتاز بكثافة المساجد التي تجاوز عددها 75 مسجدًا، منها المسجد الصلاحي الكبير، الذي كان في عهد الصليبيين كنيسة تُعرف بـ"كنيسة البعث"، ثم عاد مسجدًا بعد معركة حطين.

ومن أبرز مساجدها أيضًا: جامع الخضراء في حي الياسمينة، الذي بُني في العصر المملوكي، وجوامع الأنبياء والعامود والساطون والبيك. وبُنيت منازل نابلس القديمة بأسلوب مشابه للمنازل السورية التقليدية، حيث المساحات الواسعة وبرك المياه، ما دفع الرحالة "أوليا جلبي" إلى تشبيهها بالحصون.

ويُستخدم الحجر الكلسي الصلب في البناء، ما يمنح المدينة طابعًا معماريًا فريدًا يمزج بين أنماط إسلامية وأيوبية ومملوكية وتركية وحديثة. كما تحتوي على 10 حمامات تاريخية، مثل حمام الريشة والدرجة، وتشتهر بصناعة الصابون والملبوسات والحلويات، وعلى رأسها الكنافة النابلسية.


الاجتياح الثالث.. دمار ممنهج

هذه هي المرة الثالثة التي تُجتاح فيها نابلس هذا العام. فمع بداية عملية "السبيل الحازم" في 19 حزيران 2002، اقتحمت عشرات الدبابات المدينة، وفرضت عليها منعًا للتجول، بعد أن كانت قد تعرضت لاحتلالين سابقين خلال العام ذاته.

الاجتياح الأول كان ضمن عملية "السور الواقي" في نيسان، حيث استمر الحصار 22 يومًا، واستُشهد خلاله 80 مواطنًا، وأُصيب المئات. أما الاجتياح الثاني فكان في نهاية أيار، واستمر أسبوعًا.

خلال الاجتياح الثالث، الذي دخل شهره الثالث على التوالي، تعرضت البلدة القديمة لقمع غير مسبوق، وتدمير ممنهج للمنازل والمتاجر، حيث فُجر 25 منزلًا، وأكثر من 100 محل تجاري.


نسف الأسواق والمساجد

طال الدمار المساجد، وعلى رأسها جامع الخضراء، كما دُمرت أجزاء واسعة من السوق الشرقي بالكامل، وحُولت إلى شارع يسير فيه شاحنات الجيش بحرية. دُمّرت المحال التجارية، وتحولت الأحياء إلى أطلال، والخراب طال حتى الأبواب والنوافذ المزخرفة.

خان التجار، أحد أبرز المعالم الأثرية في نابلس، لم يَسلم أيضًا، فقد دُمر بالكامل، كما شهد حي القصبة معارك عنيفة، لجأ فيها الجيش إلى تفجير الجدران لفتح ممرات، ثم أُكمل تدمير المنازل بالجرافات.


تدمير المدارس والبنية التحتية

المدارس لم تسلم من العدوان؛ فمدرسة الفاطمية، التي شُيدت عام 1905، دُمّرت جزئيًا، وأُعيد تدميرها بعد بدء الترميم. كما تكررت الاعتداءات على مدارس الجاحظ، وعبد المغيث الأنصاري، وجمال عبد الناصر، بالإضافة إلى تدمير أجزاء من سوق الحدادين وعدد من الحمامات والأقواس التاريخية.


الهدف: تفريغ المدينة من سكانها

يرى الباحث سعيد كنعان، مدير مركز البحوث الفلسطينية، أن هذا التدمير مُخطط له مسبقًا من قبل الاحتلال، ويهدف إلى:

  1. طمس الهوية والتراث: لفصل الإنسان عن جذوره.

  2. تحقيق التهجير القسري (الترانسفير): كهدف إستراتيجي لحكومة شارون، عبر تحويل نابلس إلى نموذج للدمار والبؤس لتكراره في مدن فلسطينية أخرى.

ويختتم الحاج أبو نواف، البالغ من العمر 71 عامًا، حديثه بالقول:

 

تصميم وتطوير: ماسترويب