قبل الضياع اودعك
عدد القراءات: 1904

وقفت امام نقوش الصخرة المشرفة، نقوش تبهر الناظرين، تمنيت لو استطيع الصعود اليها ولمسها باصابعي، بحث ملياً عن صورة لصلاح الدين، لم أجدها، كان مصلى قبة الصخرة مليئاً بالنساء ولم يك فيه سوى بضعة رجال، توافدت النساء منذ الصباح الباكر الى الأقصى، يتلون القرآن ويتقربون الى الله بالصوات والدعاء.

 

تذكرت يوم ذهبنا نحن قبل بضعة عشر عاماً الى القدس، نزلنا حينها في سيارتين فولوكس فاجن احداهما موديل 1962 وتعود لخالتي بينما كانت سيارة والدتي فولكس واجن موديل 1959، ذهبنا مباشرة من نابلس الى القدس، كان طابور السيارات النابلسية يتجاوز المئات، سرنا في السيارات عبر منحنيات ومنعطفات قرى اللبن لنصل أخيراً الى الشيخ جراح حيث كانت السيارات القادمة من مدن الضفة الغربية منتشرة على رقعة واسعة جداً من شوارع القدس. وتدفق بعدها المصلون الى الحرم القدسي كالامواج، موجة وراء موجة، الى ان تمتلى جميع ساحات المسجد الاقصى ومداخله والازقة المؤدية اليه. كانت القدس حينها جزءاً من الضفة الغربية ولم تكن قد انفصلت تماما عن الجسد الام بعد.

 

  مشيت في الشوارع، شممت راحة البخور تعطر شوارع القدس العتيقة، قدام الداكين التي بقيت من فلسطين، دندنت بأغنية فيروز منذ وطأت قدماي ارض القدس، سرت ببطء تجاه باب العامود، رافقني شعور بأنني تحت المراقبة، ما الذه من شعور، ان تكون مراقباً، ان تفرض على نفسك هذا الشعور، او أن يفرضه الاحتلال عليك، تجولت فيها كروح تحلق فوق الرؤوس بعد ان تم منحها فرصة للعودة للحياة مؤقتاً بعد الموت.

 

ندمت على عدم أخذ الكاميرا معي، فكل شيء يستحق التوثيق، مشهد المحلات التجارية والحلويات الرمضانية والمسجد الاقصى الاسير، لم ار او اسمع ان بيتاً لله يتم الدخول اليه بإذن حراس او جنود مسلحين من دين آخر، سألني الجندي حين اقتربت من باب القطانين للدخول للمسجد الاقصى، ما هو دينك، فأجبته من ارتباكي باللغة الانجليزية: لقد جئت لاجراء مقابلة في القنصلية ولم يأت موعدها بعد، فأحببت قضاء بعض الوقت في المسجد (يعني بعد إذنك، ارجو ما نكون مزعجينك) فاتاح لي الفرصة (مشكوراً) للدخول الى المكان الاكثر قداسة في قلب كل فلسطيني وذلك بعد ان تأكد أنني مسلم الديانة، اقتربت من الدرجات المؤدية الى قبة الصخرة، استذكرت وانا اسيرعلى تلك الدرجات كم داستها اقدام غزاة ومقاتلين وفاتحين، لكنها بقيت صامدة بينما ذهبوا جميعاً الى سبيلهم.

 

افتربت من عمود من أعمدة احد الاقواس الكبيرة المؤدية الى قبة الصخرة، احتضنت العمود وقبلته، اغمضت عيني وضممته الى صدري، اختزلت التاريخ في لحظة. كانت تلك اللحظة صوفية مفعمة بالمشاعر الفياضة الغريبة التي لم أعتد عليها، مرت امام عيني قبائل التتار والمغول والصليبيين والإنجليز واليهود الذين رقصوا في ساحة الاقصى يوم انتكس العرب والمسلمون عام 1967، شعرت وانا احتضن هذا العمود شعور الطفل الذي عاد الى حضن امه بعد طول الغياب، لا زالت حجارة الاقصى شامخة في مكانها، بحثت عن ساعة شمسية في منتصف هذا القوس كنت قد شاهدتها حين ذهبنا ايام الدراسة الثانوية الى القدس، قام بتعريفنا بها مدرس التاريخ الذي اصطحبنا الى لقاء يشبه لقاءات (فكر واربح) مع طلاب المدرسة العمرية المحاذية للمسجد الاقصى.

 

سرت في شارع باب العامود متوجهاً نحو مغارة سليمان، هناك حيث تعرفت على فتاة مقدسية كانت اول فتاة اتعرف عليها في المرحلة الثانوية، كانت فتاة مقدسية متميزة بقوة شخصيتها وانفتاحها وجراتها، وبعد ان التقيتها لحقت بها من شارع الى آخر في ازقة واحواش البلدة القديمة، ومنذ ذلك اليوم عرفت شوارع القدس وحاراتها، كانت تلبس ملابسها المدرسية الزرقاء وكنت مراهقا في الصف العاشر، اقترن هذا الشعور بعذوبة نظرات تلك الفتاة بكل ما هو لطيف ولذيذ في علاقتي مع المرأة لاحقاً، وحين تعرفت على فتيات مقدسيات استرجعت حفنة من النظرات الغزلية التي حصلت عليها من تلك الفتاة في ريعان مراهقتي، كان جزءا لا بأس به من اعجابي بهن، وقد يكون سببا في تعلقي الدائم بالفتيات المقدسيات اللواتي قابلت بعضهن ايام دراستي للبكالوريوس والماجستير.

 

جلست على اريكة خشبية امام المغارة المشرفة على الشارع الرئيسي وتذكرت حين جلست هناك قبل سبعة اعوام او اكثر، جلست وصديقي على تلك الاريكة وتناولنا بعض الكعك القدسي بينما كان صوت نزار قباني ينبعث من احد محلات بيع الاشرطة مردداً بعض القصائد الغزلية التي صارت نهجاً يسير عليه الشباب واغانٍ بغنونها مع كاظم الساهر يومياً.

 

نظرت الى حديقة القبر وتذكرت كم دخلتها مع وفود اجنبية في الماضي، هذه الحديقة التي يؤمن اشقاؤنا المسيحيون بوجود جسد اليسوع فيها، لقد اصبحت هذه الاماكن محظورة عليً بعد ان كنت دليلاً اقود المجموعات السياحية اليها، يا له من شعور بالقهر والاقصاء. القدس حزينة، وستبقى حزينة طالما بقيت منعزلة عن بعدها الجغرافي في الضفة الغربية، لكن ما يطمئنني هو تدفق هذه الالاف من المصلين من كل حدب وصوب ومن كل فج عميق للصلاة في مسجدها الحرام يوميا.

 

لا بضائع قدسية في القدس، حاولت شراء بعض الهدايا التي اشتهرت بها القدس، لكنني لم اجد منتجاً قدسيا سوى الكعك والملبن، حتى فانوس رمضان اصبح صينيا، وكل شيء اصبح مستورداً من الصين، فقدت القدس نكهتها التي ميزتها وفقدت هويتها التي ميزت بضائعها التي لا تختلف بضائعها عن تلك الموجودة في اي بلد آخر في المنطقة. آه يا قدس، لا أنت أنت ولا الزمان زمان.

 

حين هممت بالرحيل ومغادرة ساحات المسجد، نظرت الي يساري فوجدت قبراً يستحق الوقوف عنده، قبر الشهيد عبد القادر الحسيني الذي استشهد في معركة القسطل اثناء تصدي المقاومة الفلسطينية في حرب عام 1948 والذي كان قائداً للجهاد المقدس الذي الحق خسار فادحة في العصابات الصهيونية اثناء الحرب، لكن قبراً آخر لفت انتباهي، انه قبر الشريف حسين الاول الذي اطلق الرصاصة الاولى في الثورة العربية الكبرى التي لم نذق طعم الراحة ولا الاستقرار منذ اطلاقها حيث تكالبت علينا الامم الاستعمارية ولم تتركنا لحالنا منذ ذلك لايوم. نظرت اليه وتذكرت قول شاعرنا النابلسي، ابراهيم طوقان، الذي قال له مخاطباً حين زار المسجد الاقصى بعد اطلاق الثورة العربية الكبرى:

 

المسجد الاقصى اجت تزوره                              ام جئت قبل الضياع تودعه!

 

بهذه الكلمات تمتمت وانا اغادر بوابة المسجد الاقصى، عيني عليه وقلبي معلق به، لم تبق ساحة من ساحاته دون ان تتعمد بدماء شبان ضحوا بارواحهم في سبيله، لم يكن الاقصى مجرد مسجد، بل هوية شعب وجذوره ووثيقته التاريخية في معركته المتواصلة لاثبات جذورة وحقه المشروع بالحياة.

 

لم تكتمل زيارة القدس دون زيارة صديقي داود، كان داود توأم روحي منذ التقينا سوية ونحن ندرس في السنة الاولى في جامعة دمشق، كان كثير الحديث عن القدس، تعرفت على القدس من خلاله، لم التق به منذ سنوات، لم يسمح لنا الاحتلال بالالتقاء بسبب حالة الحصار المستمره، وحين التقيت به اليوم اختصرنا كل شي في نصف ساعة، لا وقت للحديث المفصل، تبادلنا الحديث عن عناوين الاحداث الشخصية، بل عناوين المواضيع الاكثر الحاحاً، كنا كمن يسرق الزمن، كان لا بد من الاسراع قبل انتهاء فترة صلاحية التصريح الذي منحني اياه الاحتلال لزيارة القدس، حتى الامور العاطفية لم تسلم من تدخل الغزاة. لا شيء يسير كما ينبغي له ان يكون، لا بد من خلق مناخ صحي ومناسب لبناء العلاقات الاجتماعية على اسس انسانية، لم اشعر اثناء زيارتي للقدس ان المواطنين يمارسون حياتهم بشكل مناسب طالما بقيت القدس معزولة عن محيطها.

 

 

****

 

 

نابلس/القدس 5 اكتوبر 2006

  

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

معاذ الشريدة، نابلس
مقال رائع يعبر عن صدق المشاعر وعمق الاحاسيس والتجربة الرقيقة ويعبر ايضا عن فهم كاتبه وشعوره النبيل ولكن على ما يبدو تغيير الحال من المحال
تصميم وتطوير: ماسترويب