إعدام إمراة
عدد القراءات: 2016

كنا صبية صغار السن، لم نبلغ العشرة أعوام بعد، تمحورت أفكارنا في عالمنا الصغير، الحارة، لم نعرف عن العالم الخارجي الشيء الكثير، كانت الحارات المجاورات عوالم أخرى لا نعرف عنها شيئاً، كنا نمر بها أثناء توجهنا مع والدينا لزيارة أحد الأقارب في إحدى الحارات المجاورة، كانت جارتنا من الجدات القديمات، ختيارة من الذهب العتيق، أم العبد، لا تتوقف عن الحديث حول ماضيها وشبابها وذكرياتها، أتحفتنا عدة مرات بقصص شيقة عن تاريخ عائلتها الموغل في القدم، وتحدثت كثيراً عن أمجاد أسرتها التي اشتهرت بالعلم والثقافة في زمن كان التعليم حكراً على شرائح قليلة من المجتمع الفلسطيني، كانت أم العبد ممن يمجدون العهد العثماني ويتغنون بذكريات ذلك العهد.

 

تحتفظ ام العبد في منزلها المجاور لمنزلنا بكميات كبيرة من اللوازم المنزلية والاثاث القديم جداً، لا تتخلص ام العبد من أي شيء تستعمله، كل شيء له ذكرى وكل قطعة من أثاث منزلها لها تاريخ وقصة في تاريخ العائلة، حتى أواني المطبخ تمتد في تاريخها الى أحد اقارب العائلة الذين هاجروا الى الخليج وتوفوا هناك، لكنها لا تزال تحتفظ بهذه الاواني وقطع الاثاث بإعتبارها وقفاً للعائلة لا يجوز التخلص منه بل يتوجب الحفاظ عليه، وأمام هذه النظرة التقديرية للأثاث والعفش والاواني، تراكمت في المنزل كميات كبيرة من الكتب القديمة والاواني النحاسية وحتى الملابس التي لم تعد تصلح للاستعمال.

 

كنا نستمتع أيام الشتاء بالجلوس معها حول الموقد النحاسي المزين بالنقوش والكلمات المحفورة على زواياه، كانت تتسلى بتحضير الكنافة على المنقل بينما نلتف حولها كحفنة من الاطفال الجائعة بينما تتحدث بطريقتها المشوقة عن جنيات البلدة القديمة اللواتي ظهرن يوماً لوالدها واصطحبنه الى تحت الارض حيث شاهد القصور الجميلة وطلبن منه الزواج بهن إلا انه رفض وأصر على العودة ومن يومها حقدن عليه وتوعدنه بالعقاب وأصبحن يلاحقنه كلما نزل لأداء صلاة الفجر في الجامع الكبير القريب من المنزل.

 

كانت أم العبد تصطحبنا الى السوق نازل والعيد حيث كنا نلعب على المراجيح التي كانت مقامة في المكان الذي يتواجد فيه مجمع السيارات الشرقي حالياً، كنا نركب الدويخة الخشبية بينما يغني صاحبها ونغني خلفه، أما المراجيح العالية فلم نكن من المؤهلين لركوبها حيث كانت حكراً على الشبان والفتيات الكبار.

 

كانت عائلتي وعائلة ام العبد تتشارك في استعمال التلفزيون الابيض والاسود، كنا نجلس أمام شاشات التلفزيون الاردني، وكان التلفزيون الوحيد المتاح أمامنا في ذلك العهد، نشاهد افلام الكرتون التي يبدأ بثها في الساعة السادسة مساءاً وتنتهي معظم البرامج بعد ساعتين تقريباً نتوجه بعدها للنوم بانتظار يوم جديد.

 

وفي يوم من الايام جاءت أم العبد مهرولة الينا وقالت هيا بنا، سيقوم اليهود بإعدام إمرأة على الدوار، لم نكن نعرف حينها معنى الهوية ام حتى معنى وتعريف كلمة الوطن او فلسطين، كانت الامور غير واضحة لطفل لم يبلغ العاشرة، لكنني كنت قد استوعبت ان هناك جنوداً يسمون باليهود يعيثون فساداً في المدينة، بعض هؤلاء الجنود يسمون بالدروز، وهم أسوأ المجموعات وهناك مجموعة اخرى يقال لها اصحاب الطواقي الحمر، وكانوا جنوداً منظمين في حين كان أصحاب الطواقي الخضر اكثر دفاشة في التعامل مع المواطنين، كانت سلطات الاحتلال تقوم بتسيير دوريات راجلة في البلدة القديمة، يسير فيها الجنود دون احتكاك يذكر مع المواطنين، ونادراً ما تقع اشتباكات بالحجارة يرد عليها الجنود بالغاز المسيل للدموع تبدأ بعدها ما كنا نسميه ب "الهريبه"، وفي الهريبة يركض المواطنون في كل الاتجاهات للابتعاد عن جنود الاحتلال الذي ينهارون بالهراوات على المواطنين، احتلال لطيف إذا ما قورن بالاحتلال الوحشي الذي نراه اليوم رغم قبح الاحتلال في كلا الحالتين.

 

نعود لأم العبد التي طلبت منا ان نلحق بها سريعاً، لقد انتشرت شائعة كبيرة في المدينة تفيد بأن اليهود سيحضرون سيدة متهمة بقتل زوجها الى ساحة الدوار حيث سيقومون بشنقها امام المواطنين لتكون عبرة لمن يعتبر، تدفق الاطفال من الأزقة وأسرعت النساء من كل منزل باتجاه ساحة الدوار، كانت تلك أول مرة أستطيع فيها الوصول الى الدوار، كنا من السباقين في الوصول إليه، شاهدت ولأول مرة بركة مستديرة تحيط بها شجيرات الورود بينما تمتد حديقة صغيرة من طرف البركة الشمالي وتصل هذه الحديقة الى امام المستشفى الوطني، كانت هذه الحديقة ملئية بالاشجار العالية بينما تنتشر عشرات المقاعد الخشبية بين تلك الاشجار، يا إلهي كم كان منظرها جميلاً ولأ أعلم ما هو التحديث والتطوير الذي قام به المسؤولون حين قطعوا تلك الاشجار الخضراء الوارفة الظلال والتي كانت تمنح زائر المدينة مكاناً للراحة من مشقة السفر كما كانت متنفساً لأهل الاحياء المجاورة من أهل البلدة القديمة يذهبون إليها للترفيه وشمة الهوا.

 

وقفنا أمام أحد مداخل البلدة القديمة، لم أستطع مشاهدة الجموع الغفيرة، رفعتني أم العبد واوقفتني على سيارة من السيارات اللواتي اصطففن على مدخل كراج قلقيلية القديم، شاهدت آلاف المواطنين يحتشدون بينما تشوشت حركة السير، وحين أقول حركة السير اود أن الفت الانتباه الى ان عدد السيارات الموجودة في ساحة الدوار لا يكاد يتجاوز العشرة سيارات عادة، كانت معظم السيارات تتبع لمكاتب السيارات المتوجهة الى عمان ويافا وتل ابيب (مباشرة ودول تصاريح)، سيارات من نوع مرسيدس القديم، شاهدت بعض المواطنين يشيرون بأيديهم الى عامود كهربائي، تناقل البعض اشاعة اخرى تقول بأن اليهود سيقومون بنصب المشنقة هناك، كنا مجموعة من الغوغائيين الذين ينتظرون بفارغ الصبر شنق تلك المرأة، لا أعرف لماذا كل ذلك الشوق والتحمس لمشهد مفجع كهذا، لكن المواطنين كانوا كمن يشارك في رحلة ترفيهية، انتشر باعة البراد والبوشار والدرة والقهوة والشاي في شوارع الدوار وطال انتظارنا دون جدوى، بينما كانت أعداد المواطنين تزداد كلما مر الوقت مما أدى الى إغلاق الشارع الرئيسي المحاذي للمستشفى الوطني.

 

مرت دورية عسكرية اسرائيلية بالمكان، تفاجأت من الحشود الكبيرة التي تحيط بدوار المدينة، استدعت الدورية قواتٍ إضافية للمساندة، إعتقد الاحتلال ان مظاهرة مناهضة للاحتلال قد تم تنظيمها، بدأ الجنود بإطلاق القنابل المسيلة للدموع، تدافع الحشد وسقطت النساء والأطفال على الأرض، داستهم الاقدام المهرولة الى داخل البلدة القديمة، ركضت بنا ام العبد، بكينا من هول الموقف، واستمرت ام العبد بالعدو رغم ضخامة جسدها، ركضنا من ساحة الدوار الى حارتنا، شاهدنا نساءاً وأطفالاً يركضون معنا، ركض كل الى حارته وبيته، ولم نعرف منذ ذلك اليوم مصدر الاشاعة التي كادت ان تودي بحياة عشرات الابرياء اثناء التدافع، سمعنا في اليوم التالي أن إشاعة زائفة كانت السبب وراء تجمع المواطنين في ساحة الدوار، وقيل لنا يومها كيف تذهبون لمشاهدة حادثة إعدام في بلد لا يسمح بتطبيق قانون الاعدام أصلاً!

 

نابلس، 24 اكتوبر 2005

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

فؤاد ابو الحيات، نابلس
و الله صحيح لانو ما في قانون يطبق في هاي المدينة

2

رايد، طولكرم
لا يوجد قانون يطبق في المدينة
تصميم وتطوير: ماسترويب