أمسيات رمضان وعادات رمضانية
عدد القراءات: 2734

 

كركوز و عواظ

وفي إحدى مقاهي باب الساحة, كنت تشاهد خيال الظل الذي كان يطلق عليه كركوز عواظ لاشتهار هاتين الشخصيتين الرمزيتين بين شخصياته. وهو عبارة عن شاشة من القماش الأبيض يقف وراءها الحكواتي وقد اشتعل أمامه قنديلاً أو شمعة وأمسك بيديه أشخاصاً من الورق المقوّى أو رقائق الخشب ربطت بخيطان إلى أصابع يديه ويروح يحركها من وراء الشاشة فتبدو الشاشة مضاءة ما عدا الأماكن التي يتحرك فيها الأشخاص, ويروح الحكواتي يروي على لسانها بعض الحكايات والنكات مغيراً صورته تبعاً لتغير الشخصية التي تنطق باسمها, وكثيراً ما كانت تصدر عنه أصوات تثير الضحك, وكانت حكاياته تتناول شخصيات هزلية معظمها يعود إلى العهد التركي, وقد تتضمّن كلماته بعض الألفاظ التركية التي كانت ما تزال شائعة حتى ذلك الحين.

 

شاعر الربابة

وفي بعض المقاهي, كنت تجد شاعر الربابة القادم من مصر, وقد اعتلى كرسياً في صدر المقهى, وتحلق حوله الرجال يستمعون إليه وهو يتلو عن ظهر قلب وبطرية جذابة تشد الانتباه سيرة الزير سالم وأبي زيد الهلالي, وقصة عنتر بن شداد, وغيرها من السيرة الشعبية, يقدمها سلسلة من الحلقات, في كل ليلة من ليالي رمضان حلقة, يقطعها في موقف, وأنت في أشد ما تكون شوقاً إلى معرفة ما سيجري بعدها, وذلك تشويقاً للمستمعين ليحضروا في الليلة التالية ويستمعوا إلى حلقة التالية من المسلسل.

 

وفي بعض الأحيان, كان الشاعر, وغالباً ما يكون حسن الصوت يقوم بإنشاد بعض المدائح الدينية ولعل من أمتعها حكاية هجرة النبي صلى الله عليه و سلّم, مع أبي بكر الصديق من مكة إلى المدينة...

قال الراوي يا سادة يا أكابر يا كرام

لما هاجر محمد سيد الأنام

من مكة إالى المدينة:

_لا إله إلا الله

محمد رسول الله

نبي عربي نَصره مولاه

هو والصّدّيق الاثنين

العنكبوت عَشش عالغار

عَشش على الغار وكَسَاه

أبو بكر ينشن بعينيه

لقي الثعبان هاجم عليه

سدّ وكره في قدميه

قرصُه وبالسّم آذاه

ودموع الصّديق نزلوا عوم

على الرسول في حالة نوم

على خدُه قام صحّاه

_قالوا مالك يا صدّيق

 

هل أنت في شيء من الضيق

قالو في الوكر ثعبان عتيق

قرصني يا رسول الله

_قالوا هوَ قرصك فين

_قالوا في كعبي يا زين

مدّ ايده كحيل العين

بصق وبلسم وشفاه

_قالوا اطلع يا ثعبان

ياللي عبت وعيبك بان

تقرص صديق العدنان – ما تخشى من هيبة الله

_ قالوا .. اسمع يا مشهور

أنا لَمّن فَج عليّ النور

اطلعت اتلمس وأزور

أبو بكر سدّلي وكري

قرصته يا رسول الله

ما بروح ما بتهنّى

لحتى تركزلي الجنة

وانت يا صديق سامحنا

على الذنب اللي عملناه

_قالوا  سامحتك وارتضيت

يا اللي عالنبي صليت.

 

درجات المئذنة ... و كيس الحواجة ...و مدفع الافطار

وابتداء من أول يوم من أيام رمضان, كنت أشاهد في السوق وأنا في دكان العائلة, رجلاً غريب الهيئة أسود البشرة, يرتدي الملابس المغربية, يحمل بيمناه عصا, وعلى كاهله كيساً, وينادي بصوت جهوري رتيب "فطرة تمام.... زكاة الصيام.... سنة الرسول عليه الصلاة والسلام".وكان يخيل إلي أن هذا الشخص هو "رمضان", أو أنه لا رمضان بدونه إلى أن علمت أنه يحضر في كل عام إلى مدينة نابلس ليجمع ما تيسر له من "فُطرة" الصيام.

 

وحتى سن التاسعة كنت لا أمارس الصيام كالكبار, وكان يقال لي, يكفي أن تصوم (درجات الميدنة) أي أن لا تأكل أو تشرب شيئاً من الصباح حتى صلاة الظهر حين تتناول وجبة الغداء, وبعدها تصوم حتى مدفع الإفطار, وهكذا كنت أفعل.

 

وكان في معظم الأطفال أمثالي, يحتفظ كل منهم بكيس صغير من القماش يعلقه في رقبته, يطلق عليه اسم " كيس الحواجة" حيث نتحوج فيه بأصناف مختلفة من المأكولات التي يتصيدها الأطفال, فهذه قطعة صغيرة من قمر الدين, وهذه حبه ملبس, وهذا فستق وبزر وقضامة وزبيب ودوم وزعرور وعناب وسفرجل..... الخ, وفي المساء يحصي كل طفل ما جمع في نهاره من "حواجه" والفخر لمن جمع أكبر عدد من الأنواع.

 

وكنا نحن أطفال نصر على أهلنا أن يوقظونا من النوم لنشاركهم وجبة السحور وجلسته, وكنا كثيراً ما ننهض تلقائياً دون أن يوقظنا أحد, ففي مثل هذه الحالة ننهض بنشاط, ونبادر إلى إشعال الفحم في الكوانين وإلى المشاركة في تحضير طعام السحور, أما إذا كان نومنا عميقاً وأيقظنا أحد فإننا ننهض متكاسلين ونتذرع بأية وسيلة لنعاود النوم, وأحياناً يكون ذلك لإخفاء ثيابنا المبللة, وعلى كل حال فقد كان القيام للسحور ممتعاً, فالنهوض في حد ذاته والليل داج والتجمع حول المائدة وتناول قمر الدين والجبنة والخبز المقمر والشاي وتسخين الطعام المختلف عن الفطور وتناوله, كل ذلك كان ممتعاً حقاً فإذا ضرب مدفع الإمساك توقفنا عن الطعام والشراب, واستمعنا إلى صلاة الصبح يصليها الرجال جهراً ويتبعونها بالأدعية والمدائح النبوية.

 

لقد كان يثيرنا نحن الأطفال صوت المدفع ونرقب بريقه ينعكس على صفحة عيبال قبل أن يهز صوته أرجاء المدينة, وفي ذات يوم اتفقت مع رفقاء لي في المدرسة أن نذهب سوية لنشاهد عملية إطلاق المدفع, وبالفعل ذهبنا إلى تله في وسط المدينة بالغرب من المدرسة الغزالية حالياً, وكانت هذه التلة قد نشأت من تجمع أنقاض الزلزال, وهناك أعلى التلة وجدنا المدفع وإلى جانبه المسؤول عن إطلاقه وقد فوجئت أنني أعرفه فقد كان من أقارب والدتي وعلمت أنه في شبابه كان يعمل طوبجيا (مدفعياً)في الجيش التركي. قربني أبو شوكت منه وأراني كيف يدك المدفع بالبارود ثم كيف يشعل فتيلاً وما يكاد الفتيل المشعول يلامس البارود حتى يدوي المدفع ويهتز راجفاً قليلاً إلى الوراء وهنا يهلل الأولاد المحيطون بالمدفع وهم يصفقون ويمرحون.

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار
تصميم وتطوير: ماسترويب